الزُّهد:
الزُّهد في اللغة كلمة مشتقّة من مادة (زَهَد) أي أعرض، والزهيد هو الشيء القليل. والزُهد في الشيء أي الإعراض والإرتفاع عنه.
أمّا في الإصطلاح الديني فقد اختلف العلماء في تحديد مفهوم الزهد، فقيل هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، وقيل هو قصر الأمل، وقيل هو العزوف عن الدنيا، وقيل هو القناعة بما عندك، وقيل هو الرضا والتسليم بما قسمه الله لك، وقيل هو أخذ الضرورة من حاجات الدنيا، وقيل هو الإكتفاء بالحلال، وقيل أيضا بأنه الشكر عند النعم والصبر عند البلاء.
ومهما يكن من أمر تعريف الزهد فقد جسّد السيد الأمين غالب هذه المعاني في سلوكه وفي شعره.
الزهد والقناعة:
ينقل الدكتور شفيق نظام عن حال السيد محسن الأمين ( 1867-1952) عند مجيئه لدمشق فيقول: عندما ورد إلى دمشق أقام في بيت متواضع بحيّ الخراب وكان زاهدا في متاع الدنيا ويكتفي بالقليل، وكان يستقبل في بيته الفقراء والبؤساء ويجلس معهم على الحصير(1). وزهد السيد بالأموال والبيوت مردّه إلى اعتقاده بأن الغنى الحقيقي هو العفّة والقناعة :
أنا الغنيّ بعفّتي وقناعتي --- لا المال، فأعجب للغنيّ المملقِ
الزهد والرضا بما قسمه الله:
عندما ضاقت الأحوال بالناس أيام الحرب العالمية الأولى، ترك السيد محسن الأمين دمشق وعاد لبلدته شقراء، وهناك اشتدّت عليه الضائقة المالية فاقتنى بقرا وماعزا وغنما وأتانا، واشتغل بالفلاحة التي درّت عليه ما يموّن به العيال والأطفال (2). ورغم ذلك لم نرَ منه إلا الرضا بما قُسم له، فها هو يقول:
لولا طِلابُ العُلى إذ نام طالبها --- ما كنتُ ممّن يبيع اليسر بالعُسرِ
نعم رضيتُ بما شاء الإله فما --- يُجري أمور الورى إلا على قّدّرِ
الزهد في المناصب:
في أيام الإنتداب، قرر الفرنسيون استحداث منصب (رئيس علماء) للشيعة في سوريا ولبنان، وقرروا تعيين السيد محسن الأمين لهذا المنصب، وأصدروا لذلك مرسوما وأعلنوه. إلا ان السيد رفض إستلام المنصب معتبراً ان مَن يكون موظفاً عند الله، لا يمكنه أن يذلّ نفسه للمفوّض السامي الفرنسي(3). ورفضه للمنصب منطلقٌ من فهمه لأحد وجوه الزهد وهو وجوب الإبتعاد عن التزلّف للحكّام والذّل أمامهم، وهو القائل مناجيا ربّه:
لا تحوّجني للئي--- مِ ووقّني ذلّ السؤالِ
الزهد والبعد عن زخارف ولذّات الدنيا
بعد وفاته نعاه العلامة الشيخ محمد جواد مغنية بمقال في إحدى الصحف عنونه بكلمة (الزاهد)، وقال ما ملخّصه بأن السيد الأمين في أواخر حياته جاء للبنان وسكن في الشياح مستشفيا، وكان جارا للشيخ مغنية، فلاحظ الشيخ بأن السيد ليس عنده سيارة ولا حارسا ولا حاجبا ولا مساعدا، بل هو بسيط في مظهره ومأكله وملبسه ومسكنه، وكان يقصد القصّاب بنفسه ليشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله (4). وتصرّف السيد الأمين كان نابعا من يقينه بأن المرشد والمبلّغ الحقيقي يجب أن يكون قدوة في عمله للتابعين وأن يوافق المظهر والتصرّف مضمون الإرشاد والخُطب. كيف لا وهو القائل:
إذا لم يُزَنْ علم الفتى بتواضعٍ --- وعلمٍ وحفظٍ للنوافلِ والفرضِ
فللجهل خيرٌ للفتى من علومه -- إذا لم تكن يوماً إلى عملٍ تُفضي
ويقول في الإعراض عن لذّات الدنيا
لذّات الدنياي لا أخشى تبدّلها --- ولا أبالي بها يوما فأحرسها
الزهد وقصر الأمل في الدنيا
إن ترك الدنيا ليس نابعا من كره لها، بل هو نابع من معرفة لحقيقتها. فحياة آخرها الزوال لا يمكن الركون إليها (5):
لا تركننّ لهذه الدّ --- نيا فغايتها الزوالُ
وفي قصيدة ثانية يقول (6):
وما هذه الدنيا بدار إقامة --- لعمري وما من أهلها غير راحلِ
وقال في رثاء والدته، وهو منتهى التسليم والرضا(7):
إن تصبحي من حلول الموتِ في تلفٍ --- فإنما خُلق الإنسانُ للتلفِ
الزهد في الدنيا للفوز بالآخرة
وقد تجلّى هذا المعنى في أروع قصائده التي بلغت المئة بيت واستعمل في كل الأبيات كلمة (عجوز) كقافية موحّدة(8):
أتعملُ طول دهركَ للعجوزِ (الدنيا)
ولا تخشى غداً حرّ العجوزِ (النار)
تروح وتغتدي في جمع مالٍ
لديك من النضار أو العجوزِ (الفضة )
العمرُ جوهرةٌ وليس لها --- إلّا اكتسابُ العلمِ من ثمنِ
إيّاك واحذر أن تجود بها -- لسواه واغنم فرصة الزمنِ
ويتلهّف السيد رضوان الله عليه على عمرٍ يضيع دون بلوغ الغاية (9):
لهفي على عمرٍ يضيع بغير ما --- يفضي لأبعدِ غايةٍ لم تُلحقِ
وليس الذي يمضي من العمرِ راجعاً --- فحافظ على الباقي بضِنّة باخلِ
الزهد والصبر عند البلاء والضراء
رغم ماتعرّض له السيد الأمين من ردّات فعل عنيفة على إصلاحاته وآرائه، ورغم الأذى المعنوي الذي طاله ورغم إثارة الغوغاء ضده، كان دائماً حَسَنُ الظنّ بربّه، متيقّنا من الفرج بعد البلاء، وبهذا المعنى يقول:
فرُبّ باكٍ بلا حُزنٍ ومبتسمٍ --- والحُزنُ في قلبه قد قام قائمه
سيجعل الله من ضيق البلا فرجا --- وربّنا راحمٌ مَن عزّ راحمه
وإليك يا ربّاه مفزعنا --- وعليك في الشدّات نتّكلُ
الزهد حسب رأي السيد الأمين
رغم اختلاف العلماء في تحديد مفهوم الزهد بين موسّع ومضيّق، إلا أن العلامة الأمين يرى بأن الزهد هو مطابقة القول بالفعل في السرّ والعلن. ففي قصيدة له في رثاء الإمام الحسن بن علي يقول(12):
الزاهد العابد الأوّاب مَن خَلُصت --- لله نيّته في السّر والعَلَنِ
* مقتطف من بحث جامعي - أعدته أم محمد المعلم
-------------------
1- (من كتاب السيد محسن الأمين في ذكراه الأربيعن - نص محاضرة للدكتور شفيق نظام بعنوان الجانب الإجتماعي للعلامة الأمين - صفحة 151 - طبع 1992 المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق)
2- (سيرة السيد محسن الأمين بقلمه- جزء من أعيان الشيعة - تحقيق هيثم الأمين وصابرينا ميرفان - الصفحة 173 - الطبعة الأولى 2000)
3- (سيرة السيد محسن الأمين بقلمه- جزء من أعيان الشيعة - تحقيق هيثم الأمين وصابرينا ميرفان - الصفحة 189 - الطبعة الأولى 2000)
4- (المقال منشور في كتاب أعيان الشيعة المجلد العاشر - صفحة 391)
5- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الأول - الصفحة 235)
6- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الأول - الصفحة 238)
7- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الأول - الصفحة 215)
8- (نص محاضرة للأستاذ قاسم شرف بعنوان السيد محسن الأمين من خلال شعره - منشورة في كتاب (السيد محسن الأمين في ذكراه الأربعين) - الصفحة 120)
9- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الثاني - الصفحة 96)
10- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الأول - الصفحة 238)
11- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الأول - الصفحة 234)
12- (ديوان الرحيق المخنوم - السيد محسن الأمين - القسم الثاني - الصفحة 45)