الصفحات

«فتوى.. في بيت ابراهيم» فتوى.. في يد العمائم أم في يد الحاكم؟ - سلوى فاضل


«فتوى.. في بيت ابراهيم» عنوان جذّاب ،لنصٍ مُتعب، لقارئ لايُدرك من واقع جبل  عامل الكثير، بل ولوكان يدرك القليل فقط. ليكتشف  هذاالقارئ ان المُخبّأ كثيرجدا. فهل ستُطمس أحداث اليوم في المستقبل يا تُرى لصالح سلطات كبرى؟
صدر عن دار الفارابي في بيروت كتاب "فتوى في  بيت ابراهيم" وهو الاصدار السابع لكاتبه عباس جعفر الحسيني . ما يميّز الكتاب هو اولا العنوان الذي على ما يبدو ان الكاتب أدرك لعبة جذب القارئ من جهات عدة. أولها: العنوان، وثانيها:التأريخ لمرحلة مجهولة من تاريخ لبنان، وثالثها: الموضوع المثير للجدل متمثلاً برجال الدين والسياسة.
في روايته ، التي تقع في 185 صفحة تقريبا ،يتناول عباس الحسيني علاقته بآل إيراهيم العائلة الدينية التقليدية و التي كانت طرفا في صراع سياسي مع  جهة دينية ثانية يقودها السيد عبدالحسين شرف الدين الذي كثيراً ما تربط الأدبيات السياسية في جبل عامل بينه و بين مؤتمر وادي الحجير الشهير الذي انعقد في مواجهة الفرنسيين في العام1920من القرن الماضي، والذي لا زال الشيعة يتغنّون به الى اليوم، بل أدخلوه في المسلسلات السنوية. وهوالذي يمثّل اليوم- حسبما يريد الكاتب ان يُوحي وان يُسقط على الحاضر- المقاومة والنضال والجهاد مقابل موقف آل إبراهيم المؤيد للإنتداب.
هذا الإسقاط، الذي يبدو متعمّدا، لا ينسحب فقط على هذين الأمرين، بل ان الكاتب عباس الحسيني يستعين بكونه ابن بلدة النميرية، مسقط رأس آل ابراهيم ايضا، وهم من سلالة رسول الله وآل بيته،فيستخدم طريقة وإسلوبا في روايته أشبه ما تكون بالطريقة السينمائية من خلال اختراع مسألة "عبوره الزمان والمكان"، وهو إسلوب جميل ومحاولة ذكيّة لنقل تفاصيل وتاريخ منطقة كبيرة من جبل عامل، وبالأخص محيط بلدات كل من الكوثرية، والنميرية، وأنصار والنبطية. وهي المنطقة التي تتحرك داخلها الأحداث، إسلوب يبتعد فيه الكاتب او الراوي عن السرد التاريخي الممّل، فيربط كل حادثة تاريخية بحادثة فردية وعائلية.
فمن أجل ان يبررالبث المباشرلأحداث بعيدة عن هذا المحيط الضيق،المحصور في منطقة النبطية، نراه يخترع شخصية جديدة يُطلق عليها اسم(جان دار)، وهذه الأخيرة تاخذ الشخصية الأساسية أي(نبيل) الى أماكن وأحداث، لم يكن رفيقه فيها العلامة السيد محمد إبراهيم الشخصية الأساس في الرواية، بل شخصيات أخرى ثانوية.
فالسيد محمد إبراهيم، هو الذي يُفتي بقتل البيك اسماعيل الزين للتخلص منه بناءا على وشاية يتبين فيما بعد أنها غير صحيحة. والغريب في الأمر ان هذه الرواية يتداولها أهل الجنوب حتى اليوم خلال حديثهم عن الإقطاع السياسي، والتي تتلخص بإجبار كل عروس على ان تكون في الليلة الأولى لزواجها ضيفة على البيك كجواز مرور نحو مقر الزوجية، فهل فعلا كان يتم ذلك وأين عادات وتقاليد جبل عامل والاجواء المحافظة جدا وهل يحتاج الامر الى فتوى لقتل هذا المجرم البغي؟ ام ان لفتوى القتل ابعادها السياسية حيث كان آل ابراهيم في صف آل الأسعد، والبيك اسماعيل في صف آل عسيران؟
وان كان الإنتقام-الفتوى من أجل حفظ الأعراض- الا ان السيد محمد إبراهيم اعطى فتواه تلك بناءا على صراع سياسي بخلفيّة أخلاقية، حيث يدينه الكاتب في اماكن اخرى على لسان نبيل، ونبيل هو الراوي البطل الذي يتنقل بين بيروت، وجبل عامل، وفلسطين، وينقل الأحداث عبر وسيلتين الأولى عبوره الزمن من خلال عين الضيعة، بالتواطؤ مع السيد محمد إبراهيم، ومرة ثانية مع(جان دار) الذي يوّسع له "بيكار" المعلومات، ويخبره عن أوضاع العرب وفلسطين وفرنسا والإحتلال واليهود والعثمانيين والبيارتة. وكل ما يمكن ان يصلح لفيلم تاريخيّ موّثق.
والسؤال هل ان الكاتب اراد أن يرسل رسالة الى من يهمه الأمر من ان التاريخ الفنيّ السينمائيّ أضاء على بيئات محددة، واهمل قضايا أخرى؟ فدفع بنصه الروائيّ هذا المفصّل والجاهز للتصويرالى العلن، علّ من يهتم؟
فالتفصيل في كل ما له علاقة بالتاريخ لم يمنع الكاتب من إدخال آرائه الحاضرة الحالية والحديثة في النص عبرإطلاق بعض التساؤلات التي بدت نافرة، لو صح اطلاقها من قبل أي شاب في حينه وفي ذاك الزمن، لأنه بمفرداته هذه تبدو إبنة هذا الزمن وهذا العالم.
وأجمل ما في هذه الرواية هي اختتامها حين نقل الحسيني للقارئ مشهدية والدته وكيف نصحها- كونه آت من الزمنين الماضي والحاضر معا- بعدم الإرتباط بوالده،وليتبيّن لنا ان نبيل(الراوي) ليس الا شقيقه  الذي قُتل قنصاَ في الحرب الأهليّة اللبنانية.
فالكاتب انطلق في روايته من زمن الإحتلال العثماني ووصل الى الحرب الأهليّة اللبنانية في نقل دقيق وتفصيلي،فلم ينس أيضاالمرور على إحتلال فلسطين دون ان يُرعبنا بالشعارات بل ارعبنا بالحقائق.
كان واقعيا الى اقصى الحدود، وكان موضوعيّا غير متكلف، ولم يتبرج، ولم يمدح، بل انه انتقد وعلّق على سياسة العلماء ورجال الدين الذين لا زالوا الى اليوم على إنقسامهم واختلافهم السياسي لا الديني.
فما أشبه اليوم بالأمس. ومن يقول غير ذلك عليه ان يطلّع على التاريخ المنصوص في هذه الرواية التاريخية التي يتضح من خلال التسلسل التاريخي فيها ان التوثيق والمتابعة والتدقيق أخذ وقته الكبير من الكاتب.
ويتبين من خلال هدف الكاتب ان للفتوى دورها في تغيير حياة مجتمع بأكمله وبيئة وعالم ونمط حياة، فما بالنا اليوم ونحن نعيش في عالم داعشي من الفتاوى على اختلاف معاقلها ومراميها.
رسالة عباس الحسيني العلمانيّ واضحة في الرواية، وأوضح منها هو رغبته بالإضاءة على موقف آخر مُغيّب، كان موجودا في جبل عامل، ولم يضء عليه أحد تحت عنوان الإجماع الذي أكل منّا جميعا. فالسيد عبد الحسين شرف الدين رفض منح القاتل فتوى تُجيز قتل البيك في حين أطلقها السيد محمد إبراهيم وبسببها هرب الى فلسطين ليعيش هناك، وليقول للقارئ ان جبل عامل لم يكن كما هو معروف اليوم ومتداول سياسيا،ولا جغرافيا، بل انه يشمل أراضي فلسطين وصولا الى أطراف بعلبك، ويضم المسيحيين والسنّة، وليس الشيعة وقراهم فقط. فالتنوّع قديم، لكن الإعلام -كما هو حالنا اليوم- يُضيء على الأكثر سلطة، ويُطفىْ الأضواء على الأقل منها.
رابط المقال على موقع مجلة النور الجديد