الصفحات

الحملة الروسية على شرق المتوسط

لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا منذ عام 2015 الأول من نوعه في شرق المتوسط، فقد شهدت هذه المنطقة تدخلاً روسياً مماثلاً منذ قرنين ونيف من الزمن.
منذ بدايات القرن الثامن عشر، بدأت الإمبراطورية العثمانية عصر الاضمحلال، بالتزامن مع صعود الإمبراطورية الروسية، وقد شجعت بريطانيا صعود روسيا القيصرية حتى تلعب لعبة فرق تسد مع العثمانيين والفرس.
وبالفعل، شهد التاريخ دخول الروس 11 حرباً مع العثمانيين وثلاث حروب مع الفرس تكلل أغلبها بانتصارات روسية ساحقة وبسلب السلطان العثماني أو الشاه الفارسي أقاليم كانت تحت سيطرته.
عن ذاك الزمن، كتب المؤرخ الروسي فاسيلي كليوشيفسكي (Vasily Klyuchevsky (1841 – 1911 في كتابه "عصر كاترين العظيمة" أن سنوات الملكة كاترين كانت العصر الذهبي للإمبراطورية الروسية فور توليها السلطة عام 1762، وخاضت روسيا في عصرها عدداً من الحروب، أبرزها الحرب الروسية - العثمانية السادسة (1768 – 1774) والحملة العسكرية الروسية على شرق المتوسط (1772 – 1774).

هزيمة علي بك في مصر قبل وصول الروس

قبل 245 سنة، تحالفت روسيا مع ثلاث دول في مصر وفلسطين وجنوب لبنان وأرسلت أسطولها ليحتل بيروت...
التدخل العسكري الروسي في سوريا ليس الأول من نوعه، فقد شهدت منطقة شرق المتوسط تدخلاً روسياً مماثلاً قبل نحو قرنين ونصف القرن
تُعتبر الحرب الروسية - العثمانية السادسة حرباً حاسمة في تاريخ الصراعات الدولية، فالانتصار الروسي فيها أكد أن روسيا قوة عظمى، فيما سطّرت الهزيمة العثمانية بداية نهاية السلطنة، فبدأ يظهر مصطلح رجل أوروبا المريض والمسألة الشرقية.
دمّرت روسيا في تلك الحرب الأسطول العثماني، وظفرت بكامل أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وكامل شمال غرب القوقاز وضمنت لنفسها حرية الملاحة في البحر الأسود الذي كان قبل هذا التاريخ بحيرة عثمانية، بالإضافة الى حرية الملاحة في المضائق العثمانية.
كما ظفرت روسيا بمكاسب تتعلق بالرعايا الأرثوذكس في الإمبراطورية العثمانية، ما فتح الباب أمامها للتدخل في فلسطين تحت العباءة الأرثوذكسية. ولولا تدخّل الدبلوماسية الأوروبية لفرملة الانتصار الروسي والسقوط العثماني لظفرت روسيا بالمزيد.
وفي تلك الحرب، فتحت روسيا جبهة جديدة عبر حملة عسكرية على الولايات العثمانية شرق البحر المتوسط، وذلك عقب مراسلات بين موسكو والحكام المتمردين هنالك، وأبرزهم علي بك الكبير في مصر وظاهر العمر في فلسطين وناصيف النصار في جنوب لبنان.
قررت روسيا إرسال سفنها الحربية إلى شرق المتوسط لدعم حلفائها، ووصلت بالفعل عام 1772، بالتنسيق مع بريطانيا التي كانت تدعم زيادة النفوذ الروسي في المنطقة على حساب العثمانيين وفرنسا، بل كانت البحرية البريطانية شاهدة على ما يقوم به الأسطول الروسي في البحر المتوسط من دون أن تتحرك.
وكانت روسيا تأمل في التدخل أولاً في القاهرة لدعم علي بك الكبير، وهو مملوك من جورجيا (1727 – 1773) حكم بين عامي 1768 و1772 مصر، بالإضافة إلى الحجاز وأجزاء من الشام (سوريا الكبرى)، وانتهز فرصة الحرب بين العثمانيين وروسيا وأعلن الاستقلال عن السلطنة عام 1768، ثم أرسل حملة إلى الحجاز بقيادة محمد بك أبو الدهب في يونيو 1770 ثم أرسل أخرى إلى الشام متحججاً بأن والي دمشق عثمان العظم يؤوي مماليك معارضين لسلطان مصر الجديد.
وتمكّن محمد أبو الدهب من تحقيق انتصارات هائلة، فاستولى على غزة والرملة، ولما اقتربت قواته من بيت المقدس خرج إليه حاكمها وقضاتها وأعيانها ورحبوا بقدومه فدخلها دون قتال، واستسلمت يافا له بعد حصار دام شهرين، ثم انضمت قوات ظاهر العمر وناصيف النصار إلى القوات المصرية ودخلوا صيدا، ثم اتجهوا نحو دمشق، والتقى الحلفاء الثلاثة بالجيش العثماني وهزموه هزيمة كبيرة، ودخل أبو الدهب دمشق في 6 يونيو 1771.
ولكن العثمانيين تواصلوا مع أبو الدهب ونجحوا في إقناعه بالانسحاب من الشام ثم الحجاز مقابل توليه حكم مصر. وبالفعل وصل أبو الدهب إلى القاهرة عام 1772 وقاتل قوات علي بك الكبير وطرده من مصر ففرّ إلى حلفائه في الشام.
وفي تلك الأثناء، كان الأسطول الروسي قد وصل إلى سواحل شرق المتوسط، وتقرر التركيز على معارك الولايات الشامية العثمانية. كتب المؤرخ البريطاني ستيفان ونتر في كتابه "الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني 1516 – 1788" أن الشيخ ناصيف النصار كان يحكم قبضته على منطقة جبل عامل (جنوب لبنان حالياً) في تلك الفترة، وهو سليل أقوى الأسر الشيعية في المنطقة، ونجح في تحقيق استقرار اقتصادي عبر صادرات القطن والقماش المصبوغ الى الأسواق الأوروبية.
وتولى النصار حكم جبل عامل عام 1749 في إطار موافقة عثمانية ضمنية على نوع من حكم ذاتي لشيعته، ودارت بينه وبين ظاهر العمر حاكم شمال فلسطين جولات عسكرية عتيدة بين عامي 1750 و1768، قبل تحالفهما ضد حكام صيدا ودمشق العثمانيين.
ومذّاك، حمى ظاهر العمر شيعة جنوب لبنان من العثمانيين، ولاحقاً، شاركت قوات النصار ضمن جيش ظاهر العمر جنباً إلى جنب مع الجيش المصري ثم الأسطول الروسي.
وعن ظاهر العمر، نقرأ في كتاب كارل صباغ "فلسطين: تاريخ الأمة المفقودة" أن العمر تولى إدارة صفد خلفاً لوالده عام 1706، ثم راح يسيطر على الولايات والسناجق العثمانية الواحدة تلو الأخرى. ورغم أنه يذكر في كتب التاريخ باعتباره حاكم شمال فلسطين، فإنه في واقع الأمر مدّ سلطانه على كامل الأراضي الفلسطينية وصولاً إلى غزة، وساحل لبنان وسوريا وصولاً إلى دمشق في الداخل السوري وجبل عامل جنوب لبنان.
كما سيطر على طبرية عام 1730 ثم صيدا عام 1745، وعكا عام 1746، وفشل ولاة دمشق وحلب وطرابلس العثمانيون في كسره أوائل سبعينيات القرن الثامن عشر.
وفي عام 1772، وصل علي بك الكبير إلى الشام بجيشه بعد خلعه في القاهرة وانضم إلى جيش ظاهر العمر.
مع وصول الروس إلى ساحل المتوسط الشرقي، تحرّك ظاهر العمر وحلفاؤه واحتلوا بيروت في أكتوبر 1772 وهزموا الأمير يوسف الشهابي وآل جنبلاط، حكام جبل لبنان المتحالفين مع أحمد باشا الجزار، الوافد الجديد إلى بيروت قادماً من القاهرة بتأييد عثماني واسع.
نقرأ في كتاب تاريخ الأمير حيدر، للأمير حيدر بن أحمد الشهابي: "كان بين ظاهر العمر والمسكوب (المسمى العربي للروس وقتذاك) عهود واثقة، ملكتهم كاترين أصدرت الأمر لأميرال سفنها في البحر الأبيض بأن تسير إلى ما يطلب ظاهر العمر. فأقام الحصار على بيروت براً وبحراً، ودام ذلك الحصار على المدينة نحو أربعة أشهر، فتضايق الجزار ومَن معه من شدة الحصار، وصادف جوعاً شديداً حتى أكلوا الخيل والدواب".
مع سيطرة الروس على بيروت، وسيطرة العمر على جبل لبنان، تحالف الشهابيون وآل جنبلاط مع العمر والنصار، وتلقى يوسف شهاب دعماً كبيراً في ديسمبر 1773 أثناء معركة سهل البقاع ضد الوالي العثماني عثمان العظم.
وعلى إثر استقرار الجيش الروسي في بيروت بين عامي 1772 و1774، رأى علي بك حتمية استثمار هذا الدعم، وتوجّه في مارس 1773 إلى مصر بجيشه، ولكن أبو الدهب استطاع هزيمته وقتله.
عقب وفاة علي بك واستقرار روسيا في بيروت، تفاوض ظاهر العمر مع الدولة العثمانية عبر سلسلة مراسلات مع أبو الدهب واستطاع الظفر بمرسوم عثماني أوائل عام 1774 يعترف بحكمه على صيدا وعكا وحيفا ويافا والرملة ونابلس وصفد، ما يشمل أغلب أراضي فلسطين ولبنان.
في 21 يوليو 1774، انتهت الحرب الروسية العثمانية بعقد معاهدة كيتشوك كاينارجي، وبدأت روسيا بالانسحاب من شرق المتوسط تحت ضغوط الدول الأوروبية الكبرى التي لم ترد لروسيا الاحتفاظ بمكتسباتها.
وبالفعل، بدأ أبو الدهب باجتياح ولايات الشام في مايو 1775، وأمر السلطان العثماني عبد الحميد الأول حكام ولايات وسناجق الشام العثماني بالتعاون والانضمام للجيش المصري، وانشق يوسف الشهابي وانضم إلى العثمانيين.
دكّ أبو الدهب يافا بالقنابل، ويسجل ميخائيل الصباغ في كتابه "تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وبلاد صفد": "أمر محمد بك أبو الدهب رجاله بنهب المدن، وأن يعملوا السيف بكل مَن كان فيها، من دون فرق ولا تمييز، من المسلم إلى النصراني إلى اليهودي، إلى الغرباء وأبناء السبيل والزوار، ثم أمر بجعل رؤوس القتلى ركاماً وأهراماً، ليوقع الرعب في جميع حكام البلاد، وأهلها، حتى لا يقاومه أحد".
ولكن أبو الدهب توفي في 10 يونيو 1775 متأثراً بالمرض في جبل الكرمل، فانسحب الجيش المصري من الشام. وفي أغسطس 1775 أرسل العثمانيون الحملة الثانية، وقتل ظاهر العمر في عاصمته عكا في الشهر ذاته، وقام أحمد باشا الجزار بتصفية سلطان العمر ما بين ولايتي دمشق وصيدا العثمانية، ثم أصدر السلطان العثماني مرسوماً بتسمية الجزار حاكماً لولاية صيدا وعكا.
في عام 1780، زحف الجزار باتجاه جنوب لبنان واجتاح جبل عامل وقام بتصفية عدد من الوجوه الشيعية إلى أن قتل ناصيف النصار في 24 سبتمبر 1781 في معركة فاصلة في قرية يارون، وتعتبر هذه الهزيمة تصفية للحكم الذاتي للشيعة في جنوب لبنان خلال العصر العثماني.
كانت مكاسب الحملة الروسية التجارية أهم بكثير من المكاسب السياسية، فبموجب المعاهدة التي أنهت حرب الروس مع العثمانيين. تجارياً، نسجت روسيا علاقات مع تجار الشام ومصر وفتحت أمامهم أسواقاً أفادتها أكثر بكثير من المجد الحربي، واستمر هذا الحال حتى سقوط الدولة العثمانية وروسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى.
المقال ماخوذ من هذا الرابط