.. ان حركة الهجرة من جبل عامل كانت واسعة ومترامية الأطراف فكانت هجرتهم إلى الحلة وأصفهان وخراسان والهند والنجف الأشرف وكربلاء والبحرين.. ويبدو أن هجرة العامليين إلى إيران كانت متزايدة بشكل يلفت النظر، فقد انتشر العامليون في أنحاء إيران المترامية وتركوا آثارهم على ساحتها، فأسّسوا المدراس الفقهية في أصفهان وقزوين وخراسان وشيراز وطهران ورشت ويزد.. وساهموا في تصعيد الحركة العلمية في إيران مساهمة فعالة ومشاركة ملموسة.
ولم يقتصر الأمر على إحياء النهضة الفقهية في إيران على اختلاف أقاليمها، بل كان للعاملين الدور الكبير في إدارة الحكم في إيران على عهد الدولة الصفوية، فكان لهم دور مهم في الخطوط العامة للدولة الصفوية الشيعية، فالصفويون - كما نعلم - كانوا صوفية فلو لم يعتدل خط الصفوية الصوفي الدروشي بسيرة فقهية عميقة من قبل فقهاء جبل عامل، ولو لم تتأسس على أيديهم حوزة فقهية عميقة في إيران لكان خط الصفوية ينتهي إلى ما انتهى إليه بعض المذاهب والفرق كما في الشام أو تركية. فكان لفقهاء جبل عامل الدور الكبير في حفظ الخط الصحيح والأصيل للتشيع والحيلولة دون انحرافه، فحاولوا تخليصه من النزعة الصوفية وإضفاء طابع الفقه عليه شيئاً فشيئاً.
وأعتقد أن أول من تنبه إلى هذه الملاحظة هو السيد حسن الصدر فيقول في معرض رده على صاحب الرياض: «ونحن على تأخرنا عن عصر الصفوية عرفنا أن هؤلاء المشايخ (رض) إنما تمكنوا من نشر الأحكام الشرعية وقادوا الدولة الصفوية التي شعار سلطتها التصوف إلى التشريع والأخذ بالشريعة والتقليد ومرَّنوهم على التعبد بالأحكام بعد أن كانوا كلهم - هم ووزراؤهم وأهل دعوتهم وجندهم - صوفية لا يعرفون إلا الطريقة والحقيقة، فجاءهم الشيخ حسين والبهائي وأمثالهم بالتي هي أحسن بالحكمة والموعظة والمماشاة والحضور في مجالس ذكرهم حتى أنسوا بهم فصاروا يلقون في أذهانهم حسن الشريعة وأحكامها وأنها تعين على الطريقة والحقيقة وصاروا لا يذكرون أحداً من الصوفية بسوء بل يثنون عليه حتى جرَّوهم إلى العمل بالسنن والأحكام أولاً فأول، حتى عادت دولة متشرعة مربية للفقهاء والمحدثين ومروجة لطريقة أهل البيت (ع)...
من كتاب : الفقه_في_جنوب_لبنان
لمؤلفه: محمد طاهر الحسيني
رئيس مركز ابن إدربس الحلي