العامليون ومناهضة الصهيونية


كتب حسن الأمين في مستدرك الأعيان تحت عنوان ( في طريق الاستقالة)
في خلال العمل في محكمة النباطية كان الصهاينة نشطين في عمليات تهريب اليهود إلى فلسطين ، ذلك أن الإنكليز كانوا يسمحون للصهاينة بإدخال عدد محدود من اليهود يبلغ عشرات الألوف كل عام ، وهذا ما كان يسمى يوم ذاك بالهجرة القانونية ، ولكن الصهاينة كانوا يعملون على إدخال المهاجرين إلى فلسطين زيادة عن العدد المسموح به ، وذلك بتهريبهم عبر الحدود البرية من لبنان ، فتنبهت لذلك ، ومع أن سلطتي في المنطقة هي سلطة قضائية بحتة ، ولا سلطة إدارية لي لأتدخل في هذا الموضوع فقد صممت على أن أحارب هذا التهريب بكل وسيلة ، وكانت السلطة الادارية يوم ذاك تتمثل بضابط للدرك ، ولم يكن هذا الضابط ممن يهتمون بهذه الأمور ، ولكنني استطعت أن أحمله على التعاون معي في مقاومة تهريب اليهود ، وطلبت إليه أن ينظم ( دورية ) ليلية تراقب مداخل النباطية ، لأن الطريق الوحيد للمهربين هي طريق النباطية ، ففعل الضابط ذلك . وفي أول ليلة تولت فيها ( الدورية ) عملها قبضت على قافلة من السيارات كانت منطلقة باليهود إلى الحدود الفلسطينية ، وكان بينهم يهود من أوروبا ويهود من العراق ويهود من سوريا نساء ورجالا وشبانا ، فأوقف الدرك القافلة وساقوا الجميع إلى السجن بمن فيهم اللبنانيون سائقوا السيارات التي كانت تقل اليهود . وبكر الضابط إلى منزلي ليخبرني بما جرى وليقول أنه كان عند حسن ظني فنفذ جميع تعليماتي .
ومن العجيب أنه لم يكد الضابط يخرج حتى فوجئت وأنا على باب منزلي برجلين غريبين كانا على وشك الدخول علي إلى المنزل ، فتقدم أحدهما وعرف بنفسه بأنه صاحب فندق شهير في بحمدون وقال أن رفيقه عراقي ، فحسبت الرجل العراقي ممن سمع بي أيام إقامتي في العراق وأنه جاء يزورني ، إذ كثيرا ما كنت أسعد بزيارة بعض العراقيين ممن عرفتهم في العراق وممن لم أعرفهم ، فحسبت القادم واحدا منهم فهممت بالعودة إلى المنزل ، ولكنني شعرت بان صاحب الفندق ورفيقه مرتبكين جدا وأنهما يحاولان الكلام ، ولا أدري كيف أحسست في الحال بان الأمر يتعلق بالقافلة المقبوض عليها ، فاستفسرتهما فاعترفا بذلك . ولوح الفندقي بالمال فطردتهما طردا قبيحا .
والذي حيرني هو أن القافلة قبض عليها حول انتصاف الليل ، فكيف بلغ الخبر لليهودي في الفندق وكيف استطاع هو والفندقي الحضور خلال هذه المدة القصيرة . فأدركت خطر الشبكة الصهيونية وامتداد جذورها وتنظيم أمورها التنظيم الرهيب .
ومضيت إلى المحكمة فوجدت أمامي ملف القضية وكان الضابط قد نظمه وتركه بتصرفي . ولم أكد أبدأ بقراءته حتى طرق الباب ودخل علي صديق حميم ، فعجبت من دخوله ، وكانت عادتي منع موظفي المحكمة أن لا يسمحوا بدخول أحد علي صباحا... ثم دخل في الموضوع بدون مقدمات وقال بأنه مفوض بان يدفع لي مبلغا ضخما حدده ، وأن هذا المبلغ قابل للزيادة فيما إذا تساهلت في قضية اليهود ، فطردته شر الطرد .
وقبل الإفاضة في الحديث عما جرى ، لا بد لي من أن أوضح للقارئ أن أي تساهل في شأنهم لا يخشى معه من أية مسئولية .
وإني لو أطلقتهم في الحال وحددت يوما يحضرون فيه جلسة محاكمتهم ، لما كان في ذلك أي مؤاخذة ، وإن أردت أن اتشدد قليلا فاطلقهم بكفالة كان ذلك صحيحا أيضا .
ومع رغبتي في التشديد عليهم كنت أعلم أن إمكانية هذه الرغبة محدودة جدا ، وأني لو حكمتهم بأقصى العقوبة وهو ثلاثة أشهر ومائة وخمسين ليرة لبنانية على كل واحد منهم لأمكنهم استئناف الحكم ، وبذلك يخرجون عن يدي ، وكنت واثقا أن محكمة الاستئناف ستطلقهم بمجرد وصولهم إليها . لذلك أردت أن أستعمل أقصى ما يسمح به لي القانون من التشديد عليهم قبل أن يطلق غيري سراحهم ، وكانت وسيلتي الوحيدة لذلك هي أن أقرر محاكمتهم موقوفين فيبقون في السجن حتى يوم محاكمتهم والحكم عليهم ، وبعد ذلك فليفعل بهم غيري ما يشاء .
وكما دهشت لسرعة وصول الخبر إلى ذويهم في بحمدون دهشت لسرعة اهتدائهم إلى اسم صديقي النباطي واختياره هو بالذات للتوسط لدي .
وأدركت أن الشبكة الصهيونية ستتسع وتمتد ولن تتركني هادئا لحظة واحدة ، لذلك أسرعت في الحال إلى الاتصال هاتفيا بالمدعي العام في صيدا فيكتور عيسى ولم يكن مع الأسف ممن يثيرهم ذكر اليهود والصهيونية ، لذلك لم آت على ذكر هذا الاسم ، بل أثرت في نفسه المنطق القانوني فقط فقلت له أننا في منطقة الحدود التي يكثر فيها تهريب الناس إلى الخارج ، وأن تحت يدي الآن قافلة كانت تحاول اجتياز الحدود تهريبا وإني رأيت أن أتشدد مع أفرادها فقررت محاكمتهم ومحاكمة أدلائهم وسائقي السيارات موقوفين فهل أنت موافق على ذلك ؟ . فقال نعم ما تصنع وضروري أن تتشدد في الموضوع .
سالته هذا السؤال وسمعت منه هذا الجواب وأنا أعلم علم اليقين بأنه بعد أيام سيكون في طليعة من يطالبني بالتساهل معهم ! . . ولم يمض يومان على توقيفهم حتى انهالت علي التدخلات من كل جانب وجاءتني الوساطات والبطاقات والرسائل من بيروت ممن لم يكن يخطر ببالي أن يتوسطوا في مثل هذه الأمور ، بل في غيرها من الأمور ، واشتد الضغط من كل ناحية .
وكنت في كل يوم أزداد علما بمدى امتداد الأخطبوط الصهيوني ومدى أحكام أمره في كل ناحية .
وفي اليوم الخامس من توقيفهم صح ما توقعته فاتصل بي مدعي عام صيدا هاتفيا وكلمني بشيء من الخجل طالبا إلي التساهل وإطلاق سبيل الموقوفين بكفالة ! . . فأجبته بكل هدوء باني لا أرى ذلك وسأحاكمهم موقوفين . . . ومضى يومان آخران كان الضغط فيهما لم ينقطع ، وإذا بالمدعي العام يعاود الاتصال بي مصرا على التساهل ، وهنا تركت هدوئي وتكلمت بكثير من الصخب وقلت له : ليس معنى اتصالي بك من قبل أني مقيد برأيك ، وقد أبديت رأيك أولا ثم بدلته ثانيا ، وأنا لست ملزما بالعمل بالرأي الثاني .
فاجابني بكل صراحة : أن بيروت تضغط علي لأكلمك وأنا أفعل بناء على ضغطها ، ولم أساله عمن يعني ببيروت ، بل قلت له : أنني غير مستعد للإصغاء لهذا الضغط ، وأقفلت سماعة الهاتف .
وبعد يومين كانت بيروت نفسها تتنازل فتكلمني : فلما نوديت إلى الهاتف حدست بان الطالب هو بيروت ، وإذا بالمتكلم مدعي عام الاستئناف وقال بأنه يكلمني بلسان الرئيس الأول ألفرد ثابت .
واصطلاح الرئيس الأول كان يطلق على رئيس محكمة التمييز ، ولم يكن يومئذ ما اصطلح على تسميته بعد ذلك ( مجلس القضاء الأعلى ) المؤلف من مجموعة قضاة كبار ، بل أن صلاحية هذا المجلس كانت كلها بيد من يسمى ( الرئيس الأول ) لذلك كان ذكر اسمه مخيفا ، لقوة سلطته واتساع صلاحياته ، وكان اسمه أوقع في نفوس القضاة من اسم وزير العدلية ، لأن وزير العدلية ليس بدائم في وزارته فهو يتبدل بتبدل [ الوازارت ] الوزارات وما كان أكثر تبدلها في لبنان . أما الرئيس الأول فهو القابع الدائم فوق كرسيه . . . وطال النقاش بيني وبين مدعي عام الاستئناف ، ولم أتزحزح عن موقفي ، ثم قال : أن الرئيس يريد أن يكلمك بنفسه ، وبدا صوته أول الأمر هادئا حييا ، ولما لم ألن عاد مرتفعا على شيء من الوقاحة ، فارتفع صوتي على صوته ولكن على شيء من التهذيب . ثم أقفل السماعة .
وكنت قد حدست بما سيجري فدعوت ضابط الدرك ليكون الشاهد على المحادثة ، وذلك أنه كان للهاتف اليدوي يوم ذاك سماعتان يتكلم المتكلم من إحداهما ويسمع في وقت واحد ، ويضع الثانية على أذنه الأخرى ليكون الصوت أكثر وضوحا ، فأعطيت السماعة الأخرى إلى الضابط فكان يسمع كل ما يقال ، ولما ارتفع صوتي على صوت الرئيس الأول هال الضابط هذا الارتفاع - وهو الموظف المتدرج في وظيفته من رتبة إلى رتبة ، والمعتاد على الانصياع لرؤسائه - هاله أن يرتفع صوتي على صوت الرئيس فاخذ يشدني من سترتي ويقول لي راجيا : طول بالك . . . طول بالك . . . ومنذ ذلك اليوم توقف سيل الضغوط ، ولم أعين جلسة للمحاكمة إلا بعد ورود السجلات العدلية التي كان علينا طلبها من بيروت ، فلما وصلت حددت موعد الجلسة ، وجاء يوم المحاكمة فكان يوما مشهودا في النباطية احتشد فيه الناس ليروا النتيجة بعد أن شاع أمر الضغوط ، كما حضر عدد من محامي بيروت وصيدا للدفاع ، ومما أسفت له حضور من كنت أعتقد أنهم لا يمكن أن يكونوا مدافعين عن الصهاينة . وكان قد مضى على توقيف المدعى عليهم أكثر من شهر ، وكان هذا أكثر ما أستطيع فعله ، ثم أصدرت الحكم على كل واحد من الجميع بأقصى العقوبة وهو ثلاثة أشهر ومائة وخمسين ليرة لبنانية . وكان بين الموقوفين فتى عراقي من آل شماش وهي أسرة من أغنى أغنياء بغداد فلما سمع الحكم أخذ يبكي ، والله وحده يعلم كم تفعل الدموع في نفسي ، وكيف أضعف أمامها وأحنو على أصحابها مواسيا مشاركا ، والله وحده يعلم أي قلب بين جنبي ، قلب ينفعل للمهمومين وينفطر للموجعين . . . ولكن الدمع المترقرق هذه المرة من العيون الصهيونية كان له في نفسي أثر غير الأثر الذي عرفته من قبل ، ولأول مرة في حياتي أجد للدمع مثل هذا الشعور اللطيف ! . . ما ذا ؟ ! أتبدلت إنسانيتي ؟ ! أتحجرت عاطفتي ؟ ! أعدت رجلا غير الرجل الأول الحساس المرهف الحس ؟ ! . أبعد أن كنت أبكي للدموع ، عدت أنا نفسي أثير الدموع ! .
وتطلعت في حناياي ، وجلت في أعماقي ، وتلفت في خاطري ، وحدقت في وجداني ، فرأيت أني لا أزال ذاك الرجل العريق في إنسانيته ، الرجل الذي يبكي للباكين ! .
الرجل الذي لا يطيق احتمال الدمع في عيني إنسان ، بل يحس وكأنه شهب من نار تنصب على جوانحه ! .
وأدركت للتو أن إنسانيتي وحدها هي التي جعلتني أستطيب الدمع هذا النهار ! . وإنني وأنا أفجر الدموع في هذه العيون الصهيونية إنما أحاول أن أحبسها في عيون الألوف من العرب الذين سيبكيهم هؤلاء الأوغاد على أرضهم وأهلهم .
وبمجرد صدور الحكم استأنفه المحامون ، فكان علينا أن نرسل المحكومين موقوفين إلى صيدا ، وشاقني أن أتتبع أمرهم . وكان الفصل صيفا ، ورئيس محكمة صيدا وأعضاؤها متفرقون في مصايفهم بسبب العطلة القضائية ، فواحد في بلدة سير الضنية في الشمال وواحد في بلدة روم في الجنوب ، وآخر في البترون ، وبسحر ساحر جمعوهم في نفس اليوم من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، فلما اجتمعوا نظروا في طلب إخلاء السبيل المقدم إليهم من المحكومين الموقوفين فقرروا بالإجماع إخلاء سبيلهم فانطلقوا أحرارا يعاودون محاولة الوصول إلى فلسطين ، وقد وصلوا إليها - ولا شك - مع من وصلها . . . وهنا قررت أن أستقيل من القضاء .
وبينا أنا أتهيا لتقديم الاستقالة وألملم أوراقي وأستجمع أموري صدر قرار بنقلي إلى محكمة زحلة فانتدبني رئيسها لإشغال محكمة راشيا ، ثم أرسلت استقالتي ولم أنتظر قبولها ، بل تركت العمل بمجرد إرسال الاستقالة .