كشف اللّثام عن قصة أبي ذر والمقام


أخذت قصة نسبة التشيّع في جبل عامل إلى أبي ذر الغفاري ، جدالا واسعا وذهب القوم فيها مذاهب كثيرة. 
 ومع يقيننا بأن تغيير مذهب قوم يصعب أن يحصل لمجرد حلول مصلح بينهم لفترة زمنية ، بل يجب ان يترافق مع متغيرات إجتماعية وسياسية وسكّانية ... وهذا ما لم نلحظه في قصة أبي ذر مع جبل عامل . 

ومع وجود النص التاريخي الذي يؤيد زيارة أبي ذر إلى أطراف المنطقة، إلا أن الركون إلى أسطورة التشيّع على يديه دون نصّ ولا دليل هو نفي للتاريخ وهروب من مسؤولية البحث والتنقيب. (جعفر المهاجر، التأسيس لتاريخ الشيعة في سوريا ولبنان) .
فالواقع الإجتماعي والعسكري والثقافي لمنطقتنا أيام الأمويين يؤكّد أنّ هويّة الجبل لم تكن شيعيّة البتّة. (محمد علي مكي، لبنان من الفتح العربي حتى الفتح العثماني) .  فقبيلة عاملة كانت من جند الخليفة الأموي ، مخلصة له ومشاركة في غالب حروبه، ومنها صفين حيث يُنسب إلى بعض فروع عاملة قتل عمّار (محمد ريحان، جند الخليفة) .  وفي أيام العباسيين كان جنوب الشام موئلا للحركات المؤيدة لعودة الحكم الاموي ، منها ثورة المبرقع اليماني التي تجاوب معها أهل جبل عامل. (عمر تدمري، لبنان من قيام الدولة العباسية إلى سقوط الدولة الاخشيدية). 

بل النصوص الواصلة تؤكد ان التشيّع  في منطقتنا بدأ ينتشر في القرن الرابع الهجري متزامنا مع المدّ الفاطمي (حسن الامين ، جبل عامل السيف والقلم / نصّ ابو شامة / نصّ الذهبي)  وانه كان تشيّعا إسماعيليا (علي حب الله، أسطورة نسبة التشيّع في جبل عامل إلى أبي ذر / أيضا أحسن التقاسيم للمقدسي).  وفي القرن الخامس نلحظ المواجهة  والردّ من العلماء الإمامية على الفرق الباطنية الإسماعيلية، كالشيخ الكراجكي الذي صمد مع تلامذة السيد المرتضى في مجابهة المدّ الإسماعيلي في الساحل اللبناني، حتى حدّ من نشاطها وبدأت بذرة الإمامية بالحلول مكانها (عبد الله نعمة، مقدمة تحقيق كنز الفوائد).

وتعززت بذرة تلامذة المرتضى مع الظهور المفاجئ للعلماء الشيعة الإمامية العامليين في القرن السادس الهجري وأحوالهم قبل هذا القرن تكاد تكون مجهولة، والأرجح أنهم من المهاجرين الوافدين على الجبل (محسن الأمين، خطط جبل عامل) . وبقي تأثير الباطنية والإسماعيلية في الجبل،  حتى مجيء الشهيد الأول الجزيني، الذي استعان بالمماليك فقضى عليهم (البتديني اللقشي، مختصر نسيم السحر).

ولكن يبقى السؤال: ما حقيقة المقامين المنسوبين إلى أبي ذر؟ وما قصة نشره (الدعوة) في جبل عامل؟ 
الجليّ عندي أن هذين المقامين وقصة أبي ذر، بل وقصص المقامات المنتشرة في الجبل، لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى التراثين الفاطمي والتوحيدي. وهذا ما لفت نظري إليه الأخ الفاضل السيد رضا بدر الدين. 
فأبو ذرّ الغفاري، له مكانة خاصة عند الإسماعيليين، وعند الموحدين بالخصوص. فهو مقدّس ومعظّم وهو تجسيد (الكلمة)، وهو السيد اليعفوري (أو النبي اليعفوري)، وهو أبو الدرّ ، وهو ثالث الحدود، وهو المشار إليه باللون الاصفر في النجمة الخماسية. وله مقامات منسوبة إليه بأسماء مختلفة في السويداء وفي الجولان وكلها تُزار وتُعظّم . 
والحدود (وهي خمسة) عند أصحاب الدعوة قد زاروا العالم في أدوار مختلفة (نسيب اسعد الاسعد، كشف الستار)
فالعقل الكلي: هو نفسه فيثاغورس، ثم النبي سليمان، ثم النبي شعيب، ثم سلمان الفارسي، ثم ... أبو الفضل حمزة بن علي الزوزني وقت الدعوة والكشف. 
والنفس الكلية: تجسّد في أخنون، وسقراط والنبي صالح، وإيليا، ويوحنا المعمدان ، والمقداد،  ثم ... أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد التميمي وقت الكشف والدعوة. 
الكلمة: تجسّدت في أشعيا، ثم ارسطاليس ثم أبو ذر الغفاري ... ثم أبو عبد الله محمد بن وهب القرشي في وقت الدعوة والكشف ... 
السابق : وهو يوشع ... ثم عمّار بن ياسر ... ثم سلامة السامري في وقت الدعوة. 
اللاحق: ... وهو لوقا .... ثم علي بن أحمد السموقي وقت الدعوة. 
ما يهمنا من الدعاة أعلاه، هو أبو عبد الله محمد بن وهب القرشي (يعتقدون بأنة أبو ذر في الأدوار السابقة) ، وهو بحسب المراجع التوحيدية، خدم الدعوة من العام 393 إلى العام 408 هجري، وقدم من القاهرة إلى لبنان، واقام بوادي التيم مدّة، وبثّ الدعوة التوحيدية المتفرعة من الدعوة الفاطمية بعد أيام الحاكم بأمر الله، فاستجابت جنوب الشام لدعوته وأقيمت له المقامات في أرجاء البلاد، بعضها يحمل إسمه الصريح وبعضها يحمل إسم أبو الدرّ، وبعضها يحمل إسم اليعفوري، وبعضها يحمل إسم أبو ذرّ الغفاري. 
وشاع في تلك الأزمنة إقامة المزارات للدعاة الفاطميين ومن بعدهم التوحيديين، وإلى هذا يشير المقريزي في كتابه (إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا) : حيث يقول ما مضمونه بأن لدعاة الفاطميين مزارات في فلسطين ولا سيما في الجليل. 





أنظر ايضا: 
أبو ذر في روايات الواقدي - من مخطوط مركز الفقيه العاملي 
* أبو ذر الغفاري - كتاب - الشيخ عبد الله سبيتي العاملي  
أبو ذر الغفاري في ساحل الشام والصرفند - رأي د. تدمري و شكيب أرسلان