هندومة النبطية

من لوحات الفنان علي خليل ترحيني



نص الأستاذ علي خليل ترحيني : "من رحم النكبة التي شطرت فلسطين وبعثرت أهلها، وصلت عائلة أبو عمر لاجئة إلى النبطية، فاستقرت في حي السرايا، هناك حيث كانت البلدة القديمة تحتضن الغريب والنازح. هناك أيضاً، غرس عمر، ابن فلسطين، جذوره من جديد، فاقترن بفتاة من الحي، وأثمر زواجهما ميلاد روح سُميت مريم. لكن الجدّ، ولهفته العميقة وحبه الجامح، أطلق عليها اسماً خاصاً يفيض حناناً: "هندوما".
لم تكن هندوما ابنة النكبة واللجوء وحسب، بل كانت وشم الذاكرة المتناقضة لجيل كامل. ففي غفلة البراءة، غزاها مرض الحمى في صغرها، حمى لم تكتفِ بالجسد بل امتد لهيبها ليطال الجهاز العصبي، مانحةً إياها إدراكاً مختلفاً للعالم، نافذةً خاصة لم يفتحها سواها.
سيدة الشوارع ورسائل البراءة الصارخة
كانت هندوما تتخذ من شوارع البلدة مسرحاً يومياً لحضورها الفلسفي العفوي. تجول بخطى غير آبهة بضجيج الواقع، حاملةً في جعبتها فيضاً من المشاعر الإنسانية المجردة. كانت جوهر النخوة المتمشي. إذا صادفت من يلعنها أو يتجاهلها، كانت تجابهه بلعنة سريعة تنبع من جرحها الداخلي، قائلة بحدة: "يا قليل الأدب، الله يكسر إيدك!" دفاعاً فطرياً عن كرامتها المهشمة.
لقد كانت تبحث عن مرسى لميولها البريئة في اللعب، لكن المجتمع الصغير لم يرحم اختلافها. كانت ضحكة الأطفال تتحول إلى سياط تلاحقها، والنداء الاستفزازي يمزق سكينتها: "هندومة المجنونة!". فتنقلب الفطرة المرحة إلى خوف ورعب، وتهرب وتختبئ، وفي أذنيها يتردد سؤالها الموجع الذي كانت تهمس به لنفسها: "ليه بيعملوا فيي هيك؟ أنا ما عملت شي!"
كانت حياة هندوما سلسلة من اللقاءات العفوية التي تكشف عن أصالة روحها وصدقها.
السيد فحص ومباراة الأهلي
كان حضورها يتجاوز محيط الحي الضيق ليلامس شخصيات بارزة، مثل السيد نجيب فحص الذي كان يرى فيها روحاً تستحق العطاء. حين كانت هندوما تقابله، كانت ترفع صوتها بندائها الخاص: "يا نجيب فحص، أعطيني قروش لأشتري بونبون!" فكان يستجيب لندائها، مانحاً إياها قيمة الاعتراف بوجودها.
أما حضورها في مباراة الأهلي، فكان تجسيداً لحبها للحياة والمشاركة. كانت تطلق صرخات الانفعال والحماس، فإذا رأت فرصة ضائعة، كانت تندفع بهتافها الحاد: "يا عاطلين! ليه ما جبنا غول؟ خسارة عليكم!" مؤكدةً حضورها في كل زاوية من زوايا الحياة العامة.
هندوما والشيخ في ليلة السوق: كرم العفوية
المشهد الأعمق كان يقع في ليلة سوق النبطية، حيث كان التجار يفترشون الأرض على البيدر، يعدون بضاعتهم لصباح اليوم التالي. كانت تلك الليلة مرتعاً لهندوما، فهي مساحة حركية وغنية بالفاكهة المعروضة. كان الشيخ يجول بين التجار ليلاً، يحظى بالترحيب والاحترام، فيما كانت هندوما أيضاً تجول بحركتها العفوية وصوتها الجريء.
كانت تطلب من التجار بابتسامة متوقعة: "أعطيني تفاح، أعطيني عنب! بدي آكل!" وكان التجار، إما بدافع التعاطف أو لتجنب صراخها، يمنحونها مجموعة من الفاكهة الطازجة. وحين كانت هندوما تحظى بهذه الغنائم الباردة والشهية، كانت تتحول إلى مانح معطاء؛ فما إن تلتقي بنا نحن الأطفال، حتى تمد يدها الصغيرة إلينا بكرم عظيم، قائلةً بلهجة الواثق والمبتهج: "خذوا! هايدي الكم! طيبة!"
في هذا الموقف، لم تكن هندوما تستجدي، بل كانت تأخذ حقها من الحياة ومن وفرة التجار، ثم تعود لتشاركه معنا نحن الأطفال. كانت بذلك تعلمنا درساً ضمنياً في تكافؤ الفرص والكرم غير المشروط، تثبت أنها لا تزال تمتلك القدرة على العطاء رغم كل ما سُلب منها.
هندوما وبير القنديل والذاكرة المتناقضة
كان "بئر القنديل" مرسى الاحتضان الصامت، حيث كانت والدتي تمثل لها مرسى الاستثناء والاحتضان الصادق. وحين كانت هندوما تستشعر الغدر، كانت تهرب إلى أمي وتطلق حكمتها المبسّطة والعميقة: "كلّن كذّابين، بس إنتِ منيحة!" كانت هذه شهادة على نقاء روح والدتي في نظرها.
أما نحن، أطفال ذلك الحي، فكانت هندوما تمريننا الأول على الإنسانية المفقودة. كانت تنظر إلينا بعين صافية رغم حزنها، وتدعو للعب معنا: "تعالوا العبوا معي! أنا بعرف أعملكن حركات حلوة!" هذه الدعوة كانت درساً في رؤية الإنسان قبل المرض.
الضحكة العفوية... خاتمة إنصاف للإنسانية
كانت هندوما إنساناً كاملاً حُكم عليه بالتخلي الاجتماعي، وتلاطمتها أمواج الحياة التي تجرّدت من أبسط معاني الاحتواء. المجتمع الذي كان يفترض به أن يمثل قيماً التكافل والرعاية والتضامن، وجد سهولة في إلباسها ثوب النبذ.
لكن في وسط كل هذا الألم، كانت هندوما تحمل رسالتها الإنسانية العميقة. لم تكن مجنونة، بل كانت أكثرنا صدقاً وعفوية. بضحكتها النادرة، التي كانت تخرج كشعاع من بئر عميق، كانت ترسل صرخة صامتة تدين قسوة المجتمع وتُصوب نحو الإنسانية التي غادرتهم.
إن هندوما، بكلماتها الصادقة وكرمها العفوي، لم تكن سوى مرآة مؤلمة تعكس عجز المجتمع عن احتضان المختلف. لقد عاشت بهامش مجتمعها لتنصف إنسانيتها التي سُلبت منها، مخلدة في ذاكرة الأجيال كرمز للروح البريئة التي دفعت ثمناً باهظاً لاختلافها وعفويتها المطلقة. هي الإنسان، وفي تجريدهم لها، تجردوا هم من إنسانيتهم". انتهى نص الأستاذ علي خليل ترحيني

وقد كتبت الرسامة دنيا جابر : " هندومة : هي طفلة فلسطنية كان عندها داء الصرع وربما لم يتوفر العلاج بسبب امكانيات اهلها … كانت تتجول في احياء النبطية. لا ابالغ إن قلت كل اهل النبطية احبوها .
 
كانت ذكية… مثلا …لو وجدتْ حشدا من الناس ودون ان تعدهم تصرخ بعفوية انتم ٤٩ عيناً، والجواب يكون صحيحا، ويتفاجأ الحضور ان احد الاشخاص له عين واحدة … كانت متفوقة في الحساب. 
 كان كل بيت تمر من جنبه كأن ملاكا سقط عليه... 
محبوبة من الكبار والصغار و قد احبها كل من تعرّف إليها …
نهايتها احزنت كل اهل النبطيةً ….وقعت في البئر …
تذكرنا بطفولتنا وصبانا … رحمها الله
رسمتها ... وكل سنة اذكر اهلنا بالفاتحة لروح هذه الطفلة الملاك" انتهى نص دنيا جابر

من لوحات الفنانة دنيا جابر - هندومة الطفلة الذكية ملاك النبطية