من تاريخ النبطية : الدكتور بهجت الميرزا

كتبت السيدة حياة جابر  : 

تساؤلات وأفكار , بِتَعمُق , تُراودني باستِمرار : في الحياة هناك دائما " أول ".. أدم وحواء مثلاً أول البشر إلى ... وإلى أول الأطباء ,المهندسين , المحامين , فالصناعيين الخ ... جالَ بِفِكري الآن أن أتساءل : مَن هوَ أول طبيب في النبطية ؟؟.. لا أنفك اتذكره , كان طبيب العائلة والبلدة وجوارها : إنه الدكتور بهجت الميرزا ..(1895_1978)

والده ابراهيم الميرزا اﻹيراني الذي فرَّ وعائِلته مِن ظُلم الشاه . وكان يزور النبطية بين فينة وفينة ولم يلبث أن تزوج مِنَ البلدة . وكان مساعد طبيب " بوستر" في الجامعة الأميركية ,, والمعروف أنه هو من حمل عادة التطبير إلى البلد وأول مَن طالبَ سفارة بلاده السماح له ولِجاليته بإقامة مراسم عاشوراء لأنها كانت ممنوعة من المحتل العثماني ... أما د.بهجت (بهيج) الميرزا فقد تخرج من الكلية السورية الإنجيلية المُسّماة اليوم الجامعة الأميركية وأنهى اختصاصه كطبيب ,, ومارس الطب فيها وكان طبيباً حاذقاً يشُهد له التميز والجُرأة في مهنته . كان إنسانياً وسياسياً واجتماعياً . له كُرسي خاص بِه وكوب شاي في مقهى النبطية حيثُ ملتقى رجالات البلدة , يقصدها د. بهجت عصرا ليبقى على مسافة قريبة وتواصل مع أهلها , ولشدة تقربه ومعرفته بالعائلِات صَنّفَها وأطلَقَ عليها ألقاباً لا زالت تتداول إلى الآن ..
.. كنت دائما أشكو من تورم في اللوزتين جراء شرب مياه باردة , او المثلجات التي أُحبها , وكان علاجي حبة " أسبرو" وزهورات , ويومين رقود في السرير ... أُصبت يوماً بالتهاب في اللوزتين إتصلت أمي بالدكتور بهجت لتستشيره , فهو صديق العائلة , طلب منها مروري لعيادته للمعالجة .. كان المنزل قريباً , ولكن البنايات والبيوت باعدت المسافة الآن .. " سأعود للمنزل بعدها أليس كذلك أُمي " _ فأجابتني " هذا منوط بما سيقوله لك , اذهبي وأنا سأبقى على اتصال معه ." كنت مسرورة لرؤية قصر الدكتور بهيج الذي كان حديث المجتمع في المنطقة , وما زالت شروحاته تتجول في ذاكرتي : شيده سنة 1934 باتقان وإبداع ولمدة أربعة سنوات " يوسف يونان " نحات من بلدة مغدوشا , نقشَ الحجر الصخري بالأزميل , على الطراز الفارسي والأندلسي... يا لِروعته ؟!....كنتُ قد نسيتُ لوزَتيَّ عِندَ رؤية القصر الجميل , ناداني الممرض , وكان بانتظاري , لِدخول العيادة في الطابق الأول .. تفوح رائِحة الأدوية في كل مكان مررتُ بغرفة الأنتظار التي تعج بالمرضى , وبِخوف طرقت الباب ,, " إدخلي يا عمو ,, أتعلمي ؟؟.. فنحن تربطُنا قَرابة , أنتِ من بيت صفا جابر , منَ " الصفوية " من إيران الأساس , ألم يقل لك الوالد ؟.. افتَحي للِآخر فمك لِنَتطرُد الذي يزعجك هذا ... وبِشِدّة مَسَحَ اللوزَتَين بقُطن مُمسَك بملقَط , ومُغَمّس ب " دوا أحمر" لم ألحَق أن أبكي , هي ثَوانٍ .,, وقال لي " هيا انتهينا , مُرّي على داوود في الغُرفة المُجاوِرة لِيُعطيكِ الدواء , وبإمكانكِ الذهاب إلى المدرسة الآن " __ " ولكن أُمي تنتظرني " قلتُ له ,, نَظَرَ إلي بِجدِّيته , وعينيه الجاحِظاتين , فإنهما علامته الفارقة , وأكمل وهو يغسل يديه " لا تَنتَظرك , فأنا تكلمت معها " ..
.. سرتُ في طريقي إلى مدرستي وأنا أُتمتِم بِعَصبية " مِن وين إجانا هالدكتور ؟. ما كان ماشي حالي : بحبة أسبرين وفنجان زهورات و....يومين بالبيت كتير حلوين وبيريحوا ,, أُفّ..."
.... ذِكريات , أحاديث مُسَجّلة , مَشاهِد وأشرِطَة وأحداث كُلها مُدَونة في الذاكِرة ..... فالذكريات نِعمة مَجهولة . ما يكون حال الإنسان لو تَصور لِلَحظة , أنّ رأسه فارغ مِنها ؟.. أغمضت عيني وتَهيّبت الوضع : لاحَ لي كأني أعيش وحيدة , سُكون رَهيب , وضَياع , لا أعلَم مِن أينَ أتيت .؟. لا شيء سوى صدى صوتي الذي يختفي بِدَوره , هو أيضاً حين أسكت ....يا إلّهي , كِدتُّ أفقُد صَوابي .!!. أشكر الله وأحمده , فالذاكرة مِن نِعَمِه .... وما أكثر نعمائِه .
____حياة____