مجنون يحكي وعاقل يسمع

من الطرائف التي ذكرها سلام الراسي في كتابه (الناس بالناس) :
                                                                     سلام الراسي في شبابه 

عاش في قريتي إبل السقي , في جنوب لبنان , منذ اكثر من نصف قرن شاب مجنون اسمه عبد الله نصّار , ومن مظاهر جنونه أنّه كان يُرسل شعر رأسه ولحيته ويجلس قرب العين وحيداً شارد الذهن يُغنّي أبياتاً من العتابا من نظمه وعلى سجيّته.
ولم يكن يتقيّد بمفهوم القافية والوزن حسب قانون العتابا , ولا ينطبق الوصف في كلامه على الموصوف ولا تتوافق مضامين كلماته مع معانيها , لعلّه كان من طلائع فنّ الشعر الحديث , لكن مصيبته أنّه سبق عصره لأن أهل قريتنا كانوا دون مستوى مفاهيم أشعاره , أو لعلّهم رجعيين من أنصار الشعر العامودي ولذلك حكموا عليه بالجنون.
وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى , راحت (الدولة العليّة) تجمع شبّان الولايات لتدريبهم على فنون الحرب أو لتسخيرهم في نقل الذخائر وحفر الخنادق وهذا ما كانوا يسمّونه (سفر برلك) في ذلك الزمان.
فحضر إلى قريتنا (رجب أفندي) جاويش درك مرجعيون مع نفر من رجاله وجمعوا من عثروا عليهم من شبّان القرية وكان من جملتهم أخونا عبد الله نصّار الذي لم يأبه للأمر وجلس أمام رجب أفندي وراح يغنّي بيتاً من العتابا لفت انتباه الجاويش الذي أصغى إليه فإذا هو يقول :
نزل دمعي عَ خدّي شروش كبّة ... على قبور النصارى حيّكوا اليبرق
سبحان من خلق الحرذون يقطر زيت ... حبّك بقلبي متل لبيط الكِدش
فنظر رجب أفندي مليّاً في وجه الشاب وأمر رجاله أن يتركوه وشأنه..قيل يومئذ انّ رجب أفندي تركه لأنه مجنون , وقيل لا بل تركه لأنه شاعر فالشعراء كذلك لا يصلحون للحرب.
وبعد مدّة أعاد رجب أفندي الكرّة وصادر دفعة جديدة من شبّان القرية ورجالها بينهم رجل اسمه (خطّار) كان معّازاً ثم ارتقى وصار من شعراء العتابا التي راجت سوقها في قريتنا في ذلك الزمان. لكنّ خطّار هذا كان شاعراً عن حقّ وحقيق , إذ كانت قوافيه أعمدة مستقيمة وكلماته مداميك منحوتة, وتذكّر أخونا خطّار أنّ مواطنه عبد الله نصّار أنقذ نفسه من حبائل رجب أفندي ببيت من العتابا مشوّش مطحبش , لا رنين في قوافيه ولا انسجام في معانيه , فتقدّم خطّار ووقف أمام رجب أفندي وحكّ صنديحته وعصر قريحته وصاح :
العرب والترك لو التمّت أُممها ... رجب شاويش قايدها وإمامها
نادي عسكرك وامشي أمامها ... كـمـا الـكـرّاز قـدّام الـجـدا
(والكرّاز هو تيس المعزى الذي يمشي غالباً أمام الجدا)
فانتفض رجب شاويش وصاح بالتركية (أشك أوغلي أشك) أي (حمار ابن حمار) , وأطبق رجال الدرك على خطّار بالضرب والتدفيش , ثمّ شدّوا وثاقه وساقوه ومضوا به إلى حيث يعلم الله , وانطفأ خبر خطّار إلى الأبد.
ومرّ أكثر من نصف قرن على هذا الحادث المضحك المبكي , ومحت الأيام من ذاكرة أهل قريتنا أكثر ذكريات (سفر برلك) لكنّهم ما زالوا يتندّرون بأبيات خطّار وعبد الله نصّار , وكلّما ظهر في قريتنا شاعر جديد صنّفوه إمّا من جماعة خطّار أو من مدرسة عبد الله نصّار. وقد نبغ عندنا من ذلك الزمان حتى الآن , شعراء من الفريقين والحمد لله.