سأروي لكم قصة السيد حسين, وبقرته التي سُرقت , ولم يجد مَن يشتكي له...
يُحكى أن السيد حسين العاملي , مُزارع قروي عاش في بدايات القرن العشرين , زمن سيادة زعامة
الاقطاع السياسي البكَوي , في جبل عامل المعروف بحدوده اليوم بجنوب لبنان , تلك الزعامة التي عاثت في الارض الفساد , مدعومة بزعامة دينية تمثلت بعائلات علمية "حسب ما يوصّفون انفسهم"
والعائلات العلمية هذه هي عبارة عن رجال دين ظاهرا , وبواطنهم ذئاب فتكت بالبنيّة الاجتماعية والثقافية والدينية لأهل جبل عامل هذا , وتربوا على ثقافة البيك وعاداته, لكي يستلموا من بعده سلطة الاقطاع , ولكن باسم الدين. وهكذا حصل , وتشهد على تاريخهم سيرهم وممارساتهم البكوية , والطبقة الاجتماعية التي يحرصون على تميّزهم من خلالها , تارة باسم الشأنية الدينية " هذا المصطلح المبتدع من رجال الدين والمخالف لبديهيات النص الديني الذي ساوى بين الناس بالحقوق والواجبات , ومخالف لسيرة الصالحين من السلف الصالح " , وتارة أخرى باسم الارث العائلي المشيّد من دموع الفقراء , وأنين الثكالى , وتأوهات الفلاحين الذين أستسلموا لليأس , واستعباد النساء وجرارهن التي أكلت من لحم رؤوسهن , وهن ينقلن الماء من "عين الضيعة" الى دار البيك , لينعم البيك بنظافة ونضارة , ويتوضأ صديقه الشيخ الذي اذا بدأ بالوضوء انقطعت الماء عن أهل القرية. اذ أن عملية الوضوء المعقدة التي يمارسها الشيخ تختصر ماهيّة العلاقة بين المسلم والدين , حيث يدلك هذا كيف تحوّل الدين الى طقس شكلي فارغ من المضامين الانسانية , وقد تجد أحيانا أن انقطاع الماء عن أهل القرية لا يساوي شيئا عند بعض المتدينين لأن الوضوء بالنسبة اليه , وحسب البنية الفكرية التي بُني فكره الديني عليها , يساوي الدنيا وما فيها .
كان للسيد حسين بقرة يتيمة , هذا ما روته لي جدتي المرحومة , يعتمد في ما يعتمد عليه في المعاش,
على شيء من حليبها ولبنها , لعله يسدّ شيئا من ضروريات الحياة , والتي من الصعب الحصول عليها في ظل سلطة الاستبداد , ولشدة حرصه عليها , كان يأمر ولده المسكين علي بأن يسرح بها في كل صباح ويرعاها حتى المساء , واذا ما سئم من رعيها , فليغرس الودّ ويطوّل الحبل لها , لكي ترعى ما تشاء في حاكورة الضيعة , ويسلّم أمرها الى الناطور الموكل بمراقبة بساتين البيك , والناطور هو مختار الضيعة . ففعل الولد ما أمره والده بدقة , فكان يسرح بها ويرعاها , واذا ما عافها وملّ منها "طوّل لها" , أي ثبّت طرف الحبل في الودّ المغروس في الارض , وترك الحبل على طوله كي تستطيع البقرة الرعي بحرية .فعل ذلك لأيام معدودات , وكان في كل يوم يسلّم أمرها الى مختار الضيعة , حتى غروب الشمس , فعند الغروب يذهب وياتي بها الى دار أبيه , وذات يوم , وقبل أن يسلمها الى المختار , التقى بشيخ الضيعة , فاستحسن الولد أن يسلّم أمر البقرة للشيخ , باعتباره أوثق وأضمن من المختار , فعل ما استحسنه ومن دون مشاورة والده, الذي يحمل مخزونا من التجارب الحياتية من خلال معاشرته للمشايخ المتحلقين حول البيك وزعامته , متوجهين للناس بالموعظة الهادفة الى استرضاء الزعيم المتمثل بالبيك الذي غالبا ما يكون أميّ قد ورث الزعامة عن أميّ آخر .
فعندما حلّ الغروب , ذهب الولد كالعادة ليسترجع بقرة العائلة اليتيمة , فلم يجدها , واذ بها قد سُرقت.
عاد علي الى بيت والده يائسا , بعد محاولات عدّة في البحث عنها , وخائفا لأنه خالف وصيّة أبيه , عندما سلّمها للشيخ. دخل السيد الوالد الى الدار , كي يحتلب البقرة , فلم يجدها , فنادى ولده سائلا مستفهما , أين رزقنا يا بُنَي ...؟ فقال الولد: لقد سُرقت بقرتنا يا أبتي , فقال الوالد : ولمن سلّمت أمرها يا بُنَي ؟ قال :لقد سلّمتها لشيخ الضيعة .
فبُهت الوالد المسكين , وقال : يا بُنَي كنت قد أوصيتك بتسليمها للمختار , فان سُرقت شكوت أمري للشيخ , أمّا الآن فلمن أشتكي...؟
السيد ياسر ابراهيم
2009م