طقوس الموت في جنوب لبنان - قصة قصيرة للكاتب يحيى جابر

يبدع المسرحي يحيى جابر_ في هذا النص الذي يصلح رواية_ يبدع في وصف أدق التفاصيل عن طقوس الموت العاملية، كذلك باستعراض حياة القرية الجنوبية في سبعينيات القرن المنصرم.
يسترسل باستخدام المصطلحات العامية، وحالات الناس وعاداتهم، ولا ينسى وصف المكان والزمان والمهن ووسائل النقل والأدوات وذكر القرى والمعتقدات.
كتب يحيى جابر :
الكلاب الضاحكة :
لم يعلم جميل الذي نزل بعد ظهر ليختار مع الحفارين قبرا لوالده ليكسب معهم الآجر والثواب ,أن والده المرحوم الحج أبو جميل المرحوم في ظهيرة آخرالصيفيةمن عام 1972لم يكتب له في وصيته أي حبة تراب , لم يكتب له ولامقشة ولا قشة ولاعود كبريت ولاكعب زيتونةو لاجلّ ولاقرمية حطب ,حسبما قال كاتب عدل جويا صديق الوالد المرحوم الذي كان يشقّ بالصدفة على الحج أبو جميل ومات وطلع الصوت .وإستفرد كاتب العدل بالإخوة من دون جميل وأبلغهم شفاهيا ما وصاه الحج منذ إسبوع حين زاره في مكتبه بجويا .
عرف جميل في منتصف الليل أن والده الميت المسجى في الغرفة التحتانية لم يورثه شيئا .. هي أخته البهسانة العانس أبلغته "يامشحر ياجميل ولاشي ورتك بيك.طلاع تسمع ..وتسمّع جميل وسكت وتخرسن .
جميل الذي كان طوال النهار الملهوف لفعل الخير النشط الحرك من الصبح ينط على" البازورية "يجيب المغسل راح على" يانوح "يجيب المونس وراح يبلغ النعوة للضيع كلها وينط من هون لهون من تراكتور لحمار لبغل لموتورسيكل ,,همته قوية كلو مروة .. ومامعه خبر المشحّر المنيل شو عم يصير ،المي ماشية من تحت إجريه هي مياه أبيه الميت وهو مشغول بمساعدة المغسل بزق المي بالسطل .
كان مع المغسل يدولش عليه من أدوات الغسل والتكفين والثياب والبخور والكافور وكانوا إخوته في الغرفة الفوقانية مجتمعين على وصية حين طقت بإذنه مايقوله الكاتب بالعدل للشباب أخوته .
تراصف مع المشيعين وصلى وراء الشيخ الذي كبّر خلف الميت والده ..هل يهجم على طربوش كاتب العدل الذي يبربس مترحما "ماحدا ماخد معه شي "
وشوشه الطوبرجي " يللا تنكات الدهب ناطرتك ياجميل إنت حبيب بيّك " أوجميل كانت أنفاسه عم تطلع من منخاره بمجموع ألف ثور وثور ينخرون " قال تاركلي الحمارة .." وصار يحرك حنكه يمينا وشمالا وكاد حنكه العلوي يتحرك فأسنده بكفه الخشنة .
سبّل يديه وكان يجاوره كاتب عدل جويا بمظلته السوداء ووعلى صلعته طربوش أحمر قاني وربطة عنق مزوزقة ليتمايزكإبن ضيعة جويا ضيعة مغتربين أفارقة .
لايدري جميل ماذا يفعل وهو يقرأ الفاتحة على عجل ،بسمل بحنكه السفلي المرتجف كأنه سينفلج من شهشقة وندب ولطم إخواته الوارثين ..
"يابيّ لمين تاركنا " ولولت أخته
تاركلك جل الخربشت ياشلكة أجابها جميل في سره
قوم ياحج ياويلنا من بعدك قال شقيقه مستندا على شقيقه
هوي يقوم لنيك إخته ..لنيك إختك يابيّ..تابع جميل شتائمه سرا
عم تبكي ياعلوشي ياوارث "الكوارة "ماأفجرك إنت ومرتك خسّرت معك موت المقبور
فحّشوا ..ومع كل بكوة يحسها مضحكة عليه هيدي بكوة المبسوطين ..
وبلشوا التعازي
العوض بسلامتكم
كلنا على هالطريق
يبقالنا وجودكم
لقنوه الشهادة
عم تاخدوا بالخاطر ..مكسور خاطركم
طمروا وحطوا الحجرين ورصفوا الرصف .. حكيوا عن قصة هابيل وقابيل والغراب اللي علموا كيف يحفر التراب كأول قبر هالوا التراب "وحّدوا "لاإله إلا الله "
جميل يسأل الله والأئمة ليه ماكتب لي شي ..يستفسر ماذا يفعل ؟ أهل الضيعة يحسدون جميل البكر على ماسيرثه نيالو ..وهم لايعرفون أنه لم يرث شيئا ..فيجيبهم ببلاهة ..هههههه
تفرقوا المشيعيين لينصرفوا إلى الوليمة عن روح أبو جميل ..في دار أبوجميل المنتقل إلى رحمته ..
قرفص جميل على الحجر الكبير ولم يغادر ، ربتوا على أكتافه لم ينهض "إتركوني قليلا"
بقي جميل وحده على التربة ،قرفص، قالوا المنصرفين من فوق الربعة" شو بيحب بيو ".
وحده كاتب العدل ينفض طربوشه كمن يعرف أن مصيبة ستحصل فقرر عدم المشاركة في الوليمة عن روح المرحوم ..
جميل بيحب بيّو بقي وشدوا فيه يطلع ماقبل ..
معلق فيه .
ياحرام .
ياأسفي مين خلف مامات ..ياريت إبني بيطلع لجميل
بارك الله بالأوفياء
قوم ياجميل
إتركوني معه شوي ..لاحقكم بعدين إطلعوا كلوا عن روحه ..
إستقام حنكه ،هدأ روعه .لكن عينيه تفجان ككوزين صبير أحمر .الأسنان توقفت عن الكز والسن والجلخ ببعضها .أرخى حطته السوداء .
في تلك الظهيرة من شتوة البارحة المبكرة . كاد البزاق أن يطش ويتهيأ للخروج ثم عاد سريعا ،أول شتوة كاذبة , تحضرت الفطاريش أي الفطر من تحت شراشف الأرض وو لكنها عادت للنوم في جبوب العليق وكعوب الزيتون تثاءبت ثم قالت الفطاريش النعسانة "بكير على الشتاء "..وعادت للنوم تحت التراب ,وحين أسقطوا ابوجميل ورقة لحم وعظم في قبره سطعت الشمس بشمس ملتهبة ولهلبت .
" ليه ماورتني ..شو عملت لك ..شو ساويت ..مابتخاف الله ..
مين كان ينظف تحت البقرات ..مين وقف بوج أدهم خنجر قاطع الطرق وسارق البقر وومين وقف بوج الفرنساوية الزعران .
مين كان يرعى ..مين سرح ..مين رجد ّ مابتذكر مين زق مين شال مين حط ..ليه ..حميد علمتوا وعبد الله كمان والبنات ..مين سنبل مين غمر مين رجد وحمّل الجمل غمار غمار مين صوصل الحجارة مين عشّر البقرة مين نحّل النحل مين جبلك الحكيم مين حلقلك وصوبنك مين فاصل على التبنات مين غرب الشوالات طحن الطحنة وبرعل مين شال الزبل مين عبى الزبل مين حمل الزبل
الكلبة ستيلا كانت تهز ذنبها كأنها توافق على مايقوله جميل ..تنعف , تجور تحتها جورة لبطنها لتربخ .
جميل كان يكلّم التراب الطري , يفرك الحصى الناعم , يزيج حجر خفان باقي لوحده من أثاث القبر وكان جميل يجلس عليه .
مين نشل النشلة من البير مين كان يجر النورج عالبيدر ويفصل ويفاصل مين خيط بالمسلة مين حوش الصبرات وتيّن التينات مين فلق الرمانات مين شكشك الدخان كنت قول أكثر واحد بيحبوا بي وبيقللي روح إرعى البقرات ..ياجميل نظف ياجميل عتّل ..عتّلت ..تقوم تورتني حمارة ..
هي كلبتي ستيلا كانت تقترب , تتحسس موضعها في ظل الصبيرات تقيل تحفر موضعا لها تنبش التراب ..ثم مادة قدميها تتفرج على جميل ..
جميل يتكيء على حجر مدعبل يلتقط حصى و يرميه خلفه ..الكلبة ستيلا تحفرفي شجيرة طيون
ليه ماورّتني ؟
رشرش التراب مع ديدان سوداء ..
أصغى لرفش يجاوره وكان يمد لسانه ..الكلبة ستيلا تمد لسانها ..وللصبير ألسنة شوك وعيون جاحظة على فضيحة ستحصل.
إستوى جميل بجذعه ..تقوس الحاجبين إستقام ظهر الكلبة ستيلا، شدّت الصبيرات من عصب أمشاطها
أرنبت الكلبة ستيلا أذنيها
إمتشق جميل الرفش وغرزه في التراب الناعم فوق قبر أبيه ومع كل غرزة كانت تنعف ستيلا ترابا تحتها .
ليه ماورتني يابيّ..مين كان يسرح بالطرش والبقرات ..من الفجر للنجر ..مين روب الجبلة مين عمر مين قنطر القنطرة مين حدل السيرة والمشتى ..؟؟؟
شك قدمه على حافة شفرة الرفش , لوى ذراعه وعزق التراب خلفه ..
بدي طعميك للكلاب ..ياحج النحس .
مر بائع البوظة على دراجته الهوائية مناديا تا توت تاوت
شو عم تعمل ياجميل
بدي طعمي بيّ للكلاب
يامشحر
دب الصوت
ستيلا تنبح
حفر.. طق الرفش ..رنّ الصوت ..رن الرفش في آذان الضيعة ..الله أكبر
بانت الرصف المرصوفة البلاطات الإسمنتية المسقوفة فوق القبر ..
ستيلا تنبح بصوت ندابة نواحة . وصل نواحها إلى كلب المختار ودارالنباح من دار إلى دار إلى كلاب القرى المجاورة من عيتيت ويانوح وطيردبا وجويا ودبعال ومحرونة .حتى كلاب سوق العباسية تركت العظام والتعضيمات .كلاب تركض وتهرول .كلب يانوح بثلاثة أقدام يضحك عليه كلب صيد أبلق أضاع الطريق إلى ضيعة تانية . " بدو يطعمي بيو للكلاب جميل "
وليه أبلق من هون المقبرة ..ههههه.هاشت ماجت الكلاب مع الريح الخريفية المبكرة
الكلاب شلعات تتنادى ..هوووو هووو هوشة من كل الجهات
بدي طعميك للكلاب يابيّ
الكلب ذو القدم الناقصة بعد أن مر عليه دولاب التراكتور وكان يقيل نائما تحته قفز
الأبلق ذو العين المطمسة من خردق ولد صار يبصر عظاما .
الكلب الصوفي الذي ظنه الذئب يوما أنه خروف فهجم عليه وبطحه الكلب للذيب المندهش صار يركض بلا صوف .
يتسابقون وينبحون هوشة كلاب هاشوا بين الهشير والبلان والقندول ..ينحدرون من ورا الزيتونات الكبار وجل الخربشت ومرج العبد ..أبو ريضين ..العسليات ..يعبرون أراضي أبو جميل الذي لم يورث إبنه جميل
ستيلا تنبح ..باشق يطيرو ينادي الصقور ..نغلت الوطاويط في المغارة ,,الغراب يحوم وكأنه حائر بسؤاله "علمناهم الحفر لقبر وليس لفتح قبر"
جميل يصرخ وينكش بيديه "بدي طعميك للكلاب .."
إبن جميل أرسلته أمه ليستفقد والده الذي وقف فوق الربعة قرب رجمة الصبير لم يصدق مايراه
يا بي شوعم تعمل ؟
بدي طعمي جدك للكلاب ..قبّع الولد بالركييض بفردة صندل واحدة .
هاشت الضيعة ..
همّ جميل برفع البلاطة ,أطبقت عليه الظلال من كل حدب وصوب ,طيور بشرية إنقضت على جميل بمناقيرها وبأجنحتها من شراويل عقالات وحطات وفساتين الكشكش ..كغضب الله نزل على الحافر قبر أبيه .وناموا فوقه .جروه بعيدا عن قبر، تزحزحت بلاطته وكشفت وجه المقبور ..وشاركتهم السماء غضبها ببصقتين من مطر غيمة ,تفّت تفوووووو..
لفوه لجميل ..كتفوه وثبتوه وقع جميل على الضريح صارخا يا إمي أكلوني الكلاب ,
الأشقاء الوارثين إستفاضوا بضرب ولكم أخيهم من أبيهم ليكسبوا أجر الله وثواب المرحوم ..
ياكافر يانجس يافضيحتنا
ناموا فوقه .وبعدو صوته ينبح "بدي طعميه للكلاب "
آجرووا ياشباب ..أعادوا البلاطة ،رجعوا التراب بمجارف أقدامهم ..وزمط جميل وتملص وهرب وقبّع بالركض لحقوه لكنهم تعبوا ..يركضون صارخين " بدك تطعمي بيك للكلاب" كما ستركض "وفيقة " التي لقطوها مع إبن عيتيت ولحقوها على نفس الطريق ركض جميل ولكنه توارى .
رجعت الكلاب تجرج أذيالها من الخيبة ,الكلاب تقهقه في طريق العودة إلى قراها سالكة الطرقات نفسها .
أرجعوا التراب وثمة ريح ناعمة هبت على مشط صبار.
إنفتح القبر
الله يسترنا
الآتي أعظم
من علامات القيامة ..بس ليش ماورّت جميل أبو جميل ؟
على القبر المفتوح مرتين ، تمازحوا ضحكوا و بلشوا بقراءة القاتحة مرتين , قلوبهم معبقة , لم ينشرح صدرهم تشاورو.
وشو العمل هلق ؟
مين بيحرس القبر؟
بلكي بالليل رجع .؟
الموّنس الأعمى ورفيقه كانا يتشاوران وهما ينصبان الشادر وشنطة الأدعية والمسابح ويتشاجران على الأجرة واللوكس بلا غاز وإبريق الشاي حطوه على بابور الكاز وصاروا يحقنوه
بلكي طلع الميت ليكن وأنتوا عم تقروا القرآن ..ضحك المسخرجي
شو ياشيخ جعفر ، دخن سيحارته ..صفن .. نستخير خيرة ..
لازم نصبّ القبر الليلة بلكي رجع جميل حفروا ..لن يحظى بليلة تونيس ولاداعي للخيمة فوق القبر لصلاة الوحشة ..المونسان خافا .
شو منحط دورية على القبر لتحرسوا من مين
من جميل؟
ومين جميل
إبنو
ولوين هرب ؟
إنفتح القبر ..لايقفله إلا دم قتيل ..
الله يستركم من الدم اللي جاي ..وكانت الكلاب تضحك طوال الليل في تلك السهرة . 


أنظر أيضا