يوم حلّ "المطهر" في بلدة عبا - نص ورسم الفنان علي خليل ترحيني (صاحي)

لم نتجاوز السابعة من العمر ، يوم كنا نلهو أمام المنزل " لتصنيع" شاحنة نقل من الطين ، بجوار منزل جدتي إم شريف، التي كانت تجبل الطين الأبيض مع التبن وقليلا من الماء لتصنع موقد حطب .
الطقس الخريفي من أيام أيلول من سنة ١٩٧٤ يوحي بالحزن ، غيوم داكنة تحجب الشمس عن ذاك النهار ، تنذر بقدوم موجة من المطر ...انتابني شعور بأنّ حدثًا ما أو خبرًا مزعجًا قد يحصل ، فالدّنيا من حولي توحي بذلك ، أو بشيء من اللوحات التراجيدية الكئيبة قد تحدث ، فالأشجار تتمايل أغصانها التي تخلت عن سترها أوراقها الصفراء ، يعبث بها الهواء من كل جانب ، والسكون يخيم على حارتنا لولا صراخ ابن جارنا ابي رضا الذي هز ارجاء المعمورة حيث تمكن والده من تثبيته أمام الحلاق المتجول أبو ذكي شكر والذي كان أيضا " مطهرا " في هذه الواقعة ، وأم رضا تطل بزغرداتها من شباك المطبخ فرحا بطهور ابنها وتغطية صراخه الذي اجفل الدواب والزرع ، ودب الذعر في أولاد الحي، الذين سرعان ما أنتشروا في الحقول والوديان .
ومع ذياع خبر قدوم المطهر ونداء جارنا عباس ابن أبو علي خليل ، لي، باللحاق به نحوى الوطى ، أذ ستكون محطة المطهر الثانية منزل والديه موعد طهور أخيه حسين حيث تم لهيه بكوب من اللبن محاصرا في زاوية المطبخ عريا من نصفه الأسفل ..
رحت أركض بعزم شديد أتجاوز السور وحقول خلة الزيتونه ألتفت يمنة ويسرى غير آبه بصراخ جدتي أم شريف " عد إلى هنا ، ولك يا علي مانك مطهر ع شو هربين ، تعا لهون .." بدقائق ألتحقت بركب الهاربين الخائفين المذعورين المذهولين ولم يسبق ان شاهدت تجمع أولاد الضيعة من قبل ، وجوه يومئذ مصفرة ، والكل قابض بيده على بضاعته ، علما أننا كنا جميعا ممن خضع لعملية الطهور في طفولتنا لكن حلول المطهر في البلدة ألزمنا الخوف والحذر ، والهروب في هذه الاوضاع ثلثين " المرجلة " . وكان كافيا سماع خبر " المطهر في بلدتنا ".
رغم أن المطهر كان سبق وزار والدي لأكثر من مرة كحلاق ، إلا أنني كنت خائفا منه ، مرعوبا من تلك الشنطة الصغيرة التي كان يحملها يجمع فيها أدوات الحلاقة وأنواعا من شفرات الحلاقة وموسا ذا اللون الأسود للطهور .
فالاولاد خائفون وكل ينصت إليَّ وأنا أسرد لهم وصفا دقيقا لمحتويات شنطة المطهر التي سبق وشاهدتها يوم كان يحلق لوالدي شعره ، " فيها مقص وفرشات حلاقة ومعجون ، وعلبة صغيرة فيها موس شفرته حادة ومسن يسنه به قبل استخدامه ، ويصرخ عباس ابن ابو علي خليل " هذا هو "..
واكمِلُ بقرب من علبة الموس يوجد لفة شاشية وعلبة دواء أحمر ومكوكة تلزيق جرح ..وعباس يصرخ " هولي هني "
ويصرح بصوته المرتجف " أنا شفتن كمين لما طهروا خيي احمد وخيي محمد " كنت مختبِئًا على السّدّة ، وقدمانو لئيم المطهر ، شو بيسوّي بيحط منشفية بتمو ليعض عليها وبيكمشو هونيك وبيقصها بالموس وبيحط دوا احمر وبيلفها بالشاشية .." ويسأل آخر عباس " بتوجع " فيجيب عباس أنا لما كنت متخبي وعم شوف كيف بيطهر خيي أحمد كنت على السدة وعم اتوجع .. " وكان اللافت اننا أصبحنا بعيدين عن أحياء البلدة وبيوتها ، وعن المطهر ، وعملياته ... رغم ذلك كنا نسير حذرين جماعة انضم إليها أولاد الأحياء الأخرى بعد إشاعة خبر المطهر ... نسير والكل قابض على بضاعته ، ومع كل قادم نسأله " هل رأى المطهر وأين هو الآن ؟ وكانت أجوبتهم المربكة تزيد الجو حذرا ورعبا " سمعت انه هلق بعده بالحي الفوقاني بعد ما وصل على الساحة ..."
علما ان المطهّر كان يتردّد إلى البلدة كل شهر مرة فكان لديه دفتر صغير يسجل عليه اسماء الحوامل ، والولادات الجديدة من الذكور ومواعيد زيارة الطهور لكل منزل وحي ... وأخبرني عباس ونحن نجلس على صخرة في محلة الكراسي مقابل بلدتنا نراقب حينا وحركة المطهر فيه...إنّ المطَهّر تعرّض في بلدتنا لأكثر من مرة لفقدان الموس أو دفتر مواعيد الطهور وسرقته ، إلا أنه كان يعود ويحصل عليهم قبل خروجه من البلدة بعد تدخل الاباء وكبار السن في البلدة .
بعد جلاء حملة التطهير ، كنا نجول في اليوم التالي أنا وعباس إبن أبو علي خليل على أحياء البلدة نحصي المتطهرين أو المطهرين ، الذين سرعان ما نكتشفهم ، حيث كان كل منهم يداوم على ارتداء " الدشداشة" ويمشي " فرشخة " وكلما خطا خطوة يتأوّه ، فإذا مضت عدة أيام او اسبوع يعود إلى اللعب مع رفاقه بالساحة ، لكنه فاقدٌ لعنفوانه، فكان الصبيَةُ يلتفون حوله يواسونه ويرأفون به ويعطفون عليه حتى يتجاوز مأساته وما تعرض له من ارهاب المطهر وموسه اللعين ...
ولمدة بقيْتُ كلما أرى أحدا يلبس الدشداشة كنت اراقب مشيته فاحسبه ممن خضع لعملية طهور حديثة ، حتى لاحظ والدي الخبر عندي ، فصحّحه لي "بأن التطهير يصيب صغار السن ، أما الكبار الذين يلبسون الدشداشة فهو زي يلبسونه بالصيف ، من رجال البلدة وشبابها خاصة أولئك الذين يعملون في الخليج أو قد اتته دشداشة هدية من الحجاج أو المعتمرين .
علي خليل ترحيني
ذكريات الطفولة في " عبّا " ..
الجمعة ١٦ أيّار ٢٠٢٥ م